الباحـث الجامعـي توتـاي سيف اللـه هشام لـ”الشعـب”:

في الأدب الرقمـي.. تتشكل المعاني بـلا سلطـة 

فاطمة الوحش

قال الباحث الجامعي توتاي سيف الله هشام إن التحول الرقمي قد أعاد صياغة العلاقة بين النص والكاتب بشكل جذري، معلنا ما يمكن تسميته بزمن “ما بعد المؤلف”، حيث لم يعُد النص يُقرأ بوصفه ملكا خاصًا لكاتب واحد، بل صار كيانًا شبكيًا، مرنا، مفتوحا على احتمالات لا متناهية من التكوين والتأويل.

وأوضح الأستاذ توتاي، في تصريحه لـ«الشعب” أن المؤلف في الأدب الورقي التقليدي ظل لقرون يتسيّد العملية الإبداعية، متربعا على عرش المعنى باعتباره المهندس الأول للنص، والمُنتِج الوحيد لهويته ووجوده الأنطولوجي. غير أن هذا الوضع تغيّر مع بروز الأدب الرقمي، الذي لم يعد يعترف بالمركزية الفردانية للكاتب، بل دفع نحو تذويب حضوره داخل منظومة رقمية معقّدة، تتشابك فيها الخوارزميات والتفاعلات والبرمجيات.
وأكد الباحث أن ما يحدث اليوم ليس مجرد تطبيق لمفهوم “موت المؤلف” كما صاغه رولان بارت، بل هو تخطٍّ له نحو انقراض تدريجي للذات الكاتبة، حيث يتم استبدالها ببنية لا مركزية قابلة للتبديل، يختفي فيها الكاتب كفرد، ويُعاد تشكيله ضمن شبكة لا تحتفي بالبصمة الأسلوبية ولا تعترف بالملكية الفردية للنص.
وأضاف المتحدث، أن الأدب الرقمي لا ينزع فقط سلطة التأليف من الكاتب، بل يعيد تعريف مفاهيم جوهرية مثل المعنى، الملكية، السلطة النصية، والفاعلية الأدبية، إذ أصبح النص يُكتب ويُعاد تشكيله لحظيًا عبر مجموعة عناصر متداخلة: من سياسات المنصات، وتفاعلات القرّاء، إلى أدوات الذكاء الاصطناعي.
ويرى توتاي أن “فعل الكتابة” لم يعد مقتصرًا على شخص واحد، بل بات يتوزع بين المستخدمين والنظم الرقمية، فيصبح المؤلف مجرد محفّز ضمن بيئة تشاركية تتيح إنتاجًا جماعيًا للنص، بما يُعيد تشكيل النص كفضاء مفتوح وديناميكي، لا يثبت على هيئة ولا يحتكم لصوت واحد.
ولفت الأستاذ توتاي إلى أن هذا التلاشي للذات الكاتبة يجد جذوره في الأدب الشعبي القديم، حيث لم يكن الراوي يمتلك الحكاية، بل كان مجرد وسيط، ينقل نصًا متداولاً في الذاكرة الجماعية، ويُروى بأصوات متعددة. “فالحكاية الشعبية لم تكن تُنسب لشخص، بل للأمة الذاكرة، وهي تُعدل وتُحرف مع كل إعادة سرد”، مشيرا إلى أن ذلك ما يُشبه اليوم إعادة كتابة النصوص الرقمية بتفاعل مباشر ومفتوح.
لكن الباحث نبّه إلى الفرق الجوهري بين الراوي الشعبي الذي ظل مرتبطا بالصوت والجسد وبنية الحضور، وبين المؤلف الرقمي الذي يتحول إلى كيان شبحي، متشظٍّ، يُسحب منه المعنى تدريجيا ليبقى مجرد واجهة أو توقيع رمزي في أفضل الحالات. فالأدب الرقمي لا يُنتج من أجل اسم، وإنما داخل نظام إنتاج جماعي يذوّب الفرد لصالح تعددية الذوات والوسائط والبرمجيات.
وشدد توتاي هشام على أن هذا الانزياح في مفهوم “الكاتب” يستوجب كذلك إعادة النظر في أدوات النقد، إذ لم يعُد السؤال النقدي الأساسي “من كتب هذا النص؟” وإنما أصبح الأهم هو “كيف تم إنتاج هذا النص؟”، “بأي أدوات رقمية؟”، و«ضمن أي نمط تفاعلي؟”.
واختتم سيف الله تصريحه بالقول: “نحن ننتقل من سلطة الإسم إلى سلطة النظام، ومن البصمة الفردية إلى شفرة المشاركة”، مضيفا أن الأدب الرقمي، وإن بدا مستقبليا، إلا أنه يعيدنا في جوهره إلى منطق الأدب الشعبي التشاركي، ولكن ضمن فضاء أكثر تجريدًا، وأكثر تجليا لغياب الذات الكاتبة، حيث يتحول النص إلى نص بألف مؤلف، ولا أحد منهم يحمل سلطة الهيمنة، ولا أحد يُخلَّد اسمه في ذاكرة الأدب.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19799

العدد 19799

الثلاثاء 17 جوان 2025
العدد 19798

العدد 19798

الإثنين 16 جوان 2025
العدد 19797

العدد 19797

الأحد 15 جوان 2025
العدد 19796

العدد 19796

السبت 14 جوان 2025